أخبار عاجلة

حينما تتألق الحكمة بين جلباب وحقل

بين خضرة الحقول اليانعة وزرقة الأرض الطينية الخصبة.. تنمو لدى الفلاح المصري قدرة عجيبة على الاتزان الانفعالي واستقاء الحكمة؛ لتتكون شخصية متفردة تجمع بين الانتماء إلى الأصل والتطور المواكب للعصر.. وبجوار قريتنا الحبيبة تونا الجبل في مركز ملوي بالمنيا منطقة صحراوية كانت تسمى «الجبل»، وهي ببساطة أرض لم تكن مستصلحة.

وعلى تلك الأرض وقع اختيار مجموعة من أبناء القرية كان بينهم أعمام أفاضل لي قرروا المغامرة واستصلاح تلك الأرض وزراعتها.. وكان من بينهم العم هاني جلال – رحمه الله – لم يكن قرار الزراعة في تلك الأرض سوى حرب بكل ما تحمل الكلمة من معنى.. فالمياه كانت نادرة حتى قيل أنه حينما تم تركيب «طلمبة حبشي» في تلك الأرض كاد الناس يحتفلون بها.. وظلت الإقامة والزراعة فيها صعبة أيما صعوبة حتى قررت الدولة شق الترع إلى مختلف المواقع الأقرب للاستصلاح الزراعي.

زرع الأعمام والناس تلك الأرض بالموالح والمانجو وتعلموا من زراعة تلك المحاصيل الصبر في أسمى صوره؛ لأن المعروف أن انتاجها يستغرق سنوات ربما تطول أملاً في ظهور باكورة الإنتاج.. كان عمي هاني بين هؤلاء الزراع .. هو رجل عصامي بنا نفسه بكفاحه وعرقه وجهده حتى أن الوقت لديه كان محسوبًا بعناية.. في الحقل تجده شأنه شأنه إخوته فلاح أصيل يرعى أرضه، وفي «قعدات العرب» تجده محكما هادئا يجمع بين الاتزان والحسم..

أقول ذلك بمناسبة المستوى المتدني الذي يعانيه بعض الحاصلين على شهادات علمية أو ربما درجات ومع ذلك فإن أحدهم «لا يحل ولا يربط»، وقد تجد أحدهم فنانًا كبيرًا أو شخصية مشهورة أو مسؤولا في موقع مسؤولية ولا يجيد الإدلاء بتصريح يحتوي به أزمة أو يعالج به مشكلة.. لقد أثبتت تجارب الحياة أن الخبرة بها أرقى من الشهادات والمواقع والمناصب.. رجل يبدو بسيطًا من قرية يؤمن تمامًا بتعليم المرأة وحقها في إبداء الرأي والمشورة.. رجل يبدو بسيطًا من قرية ويجلس في جلسة يصدر قرارًا ربما لو وصل إلى ساحات المحاكم لاستغرق سنوات للوصول إلى حل.

هكذا كان العم هاني جلال.. أذكر أنني قدمت بعد الفقرات التمثيلية الساخرة على مواقع التواصل الاجتماعي واليوتيوب؛ فتعرضت لانتقاد وهجوم من كثيرين كانت رؤيتهم تقوم على طرح غريب مفاده كيف أكون صحفيًّا محترمًا وأتوجه إلى تمثيل والتهريج.. بينما هناك في «الجبل» كان لعمي هاني رأي آخر .. بل وصل الأمر بالرجل إلى أنه كان يتابع المقاطع التي أقوم بإخراجها وتمثيلها ويستشهد بها في جلسات للحل والعقد.. وهنا أدركت قيمة الرجال أصحاب الحس الفطري الراقي.

أتذكر عمي هاني جيدا حينما أنظر إلى بنتي «مريم وسندس» وقد منَّ الله علي بهما لأجد في شخصيتهما نبوغا رغم طفولتهما، بينما يقول لي أحد الناس: «ربنا يديك الواد»، فأكظم غيظي صبرًا إلا أنني ألتمس العذر للمتكلم لاستناده إلى ثقافة تحاول إلغاء وجود المرأة من الدنيا.. لكن ذلك الرجل كان يمتلك من الثقافة والإيمان بدور المرأة ما جعله يتحدى عائلة ومجتمعا بأكمله.. لم يكن عمي هاني عضوا في المجلس القومي للمرأة ولا عضوا في البرلمان يريد أصواتا نسائية في الانتخابات .. لكنه ببساطة كان صاحب فطرة سليمة سوية.
ولست أدري السرَّ الذي كان بين عمي هاني وبين ربه، حتى يصل به الأمر إلى أن يوصي أهله قبل أيام من رحيله عن الدنيا بألا يرتكبوا أي محرمات في حالة وفاته.. وكأن الرجل كان يستشعر أنه على عتبة دنياه يوشك أن يودعها..إنها نعمة أيما نعمة وفضل أيما فضل وعمل لا أظنه سينقطع خصوصا وأنني علمت أن أبناءه قد عزموا على مواصلة الدعاء له بالرحمة والمغفرة وتطبيق وصيته حرفيا.

يحضرني في تطبيق وصية العم هاني قول النبي – صلى الله عليه وسلم – : إذا مات ابن آدم؛ انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له رواه مسلم، ويقول أحد العلماء عن هذا الحديث الشريف، هذا الحديث من أوضح الواضحات، لا يحتاج إلى شرح يقول النبي – صلى الله عليه وسلم – إذا مات ابن آدم؛ انقطع عمله إلا من ثلاث يعني ينقطع عمله الذي يجري عليه بعد الموت إلا من هذه الثلاث: صدقة جارية قد وقفها هو مثل وقف مسجد يصلى فيه، أو عمارة تؤجر، ويتصدق بأجرتها، أو أرض زراعية يتصدق بما يحصل منها، أو ما أشبه ذلك، فهذه صدقة جارية، يجري عليه أجرها بعد وفاته، ما دامت ينتفع بها الناس. أو علم ينتفع به: إما كتب ألفها، وانتفع بها الناس، أو اشتراها، وأوقفها، وانتفع بها الناس من الكتب الإسلامية النافعة، أو نشره بين الناس، وانتفع به المسلمون، وتعلموا منه، وتعلم بقية الناس من تلاميذه، هذا علم ينتفع به، فإن العلم الذي مع تلاميذه، ونشروه في الناس ينفعه الله به، كما ينفعهم أيضًا، وهكذا الولد الصالح الذي يدعو له، تنفعه دعوة ولده الصالح، كما تنفعه دعوة المسلمين أيضًا، وإذا دعا له إخوانه، أو تصدقوا عنه؛ نفعه ذلك.