وقفت “رهف” أمام المرآة تتآمل وجهها الشاحب بعيون زابلة يملؤها الحزن والآسى ،بهدوء امسكت بأحمر الشفاه ورسمت به شفتيها الصغيرتين وكحلت عينيها بآناملها المرتعشة ، لعل هذا الشحوب والزبول يتلاشوا مع تلك المساحيق التي لم تهتم يومًا كأي فتاة في عمرها الذي لم يتخط السادسة عشرة بأن تقتنيهم لتتزين بهم ، وأسدلت شعرها على كتفيها ، وراحت تمشطه ببطء ، فعلت ما طلبته منها خالتها دون أي نقاش
توقفت عن تمشيط شعرها حينما سمعت صوت خالتها يأتيها من خلف الباب المغلق ترحب بقادم لا تعرفه ، وبعد قليل دخلت عليها الخالة لتستعجلها فهناك ضيف أتى من أجلها ،عليها أن تخرج في أبهى صورة لها ، عدلت لها خصلات شعرها ، ومسحت بيديها المسحوق الأحمر الذي خرج عن شفتيها ، متعجبة من جهلها باستعماله، وطلبت منها ان تبتسم وتمحو هذا العبوس من على وجهها ، فتحت دولاب ملابسها وراحت تقلب فيه يمينًا ويسارًا ثم خرجت وعادت لها بفستان وردي والقته على فراشها وتعجلتها في ارتدائه .
تابعت بعينيها خطوات خالتها ، بعد أن تأففت من ثرثرتها ، وهي تخرج وتغلق خلفها الباب ، تنهدت ونظرت لساعة معلقة على الحائط ،عقاربها تشير إلى السابعة مساءً فنظرت للمرأة وهزت رأسها كأنها تؤكد صحة ما جاء في مخيلتها انه الوقت الذي حددته تلك الجارة الفضولية التي أتت اليوم مبكرًا على غير عادتها ، وأختلت بخالتها لتعلن لها عن عثورها أخيرًا على “المنقذ ”
لم تفهم ما قالته الجارة الفضولية ، ولكنها استرقت السمع من خلف باب غرفتها الموارب ، ووصل لأذنيها همساتها لخالتها وهي تقول أن عمره قارب على الأربعين ولكن من يراه لا يعطيه الثلاثين ، زوجته توفت منذ شهور وتركت له طفلة عمرها ثلاث سنوات ، وتابعت بعد أن قامت لتودعها وقد ارتفع صوتها قليلًا: اليوم الساعة السابعة ، نبهتها الخالة بخفض صوتها ، فقالت بهمسات سمعت بعضها “رهف” : عليكي ان تزينيها وتضعي لها مساحيق على وجهها لتظهرها وكأنها في العشرين حتى لا يراها طفلة ساذجة ، هزت الخالة رأسها وهي تعبر لها عن امتنانها وتعدها برد الجميل .
فاقت على صوت خالتها تستعجلها للقدوم ،ارتدت الفستان الذي لا تعرف من أين أتت به خالتها لربما كان يخصها يومًا ما ،وكان ضيقًا للغاية يبرز مفاتنها وبلا أكمام ، وقصيرًا يكشف عن جزء كبير من ساقها الملفوف ،ظلت تشده لأسفل لكن دون جدوى ، أرادت أن تستبدله ، إلا أن نداءات خالتها المتلاحقة جعلتها تضجر وتعدل عن رأيها وتخرج به للضيف .
خرجت من غرفتها وهي تتحسس خطواتها فالفستان ضيق وليس لديها رغبة لهذا اللقاء الثقيل ، اسندت بيدها اليمنى على الحائط ونظرت لأسفل لا تريد رؤية الضيف الذي تخافه رغم انها لا تعرفه ، حتى لو كان منقذا كما قالت الجارة ، فهي أصبحت تخاف من مواجهة أي شخص غريب أو حتى قريب ، ومنذ عام لم تتحدث لأحد ، حتى خالتها تتجنب الحديث معها إلا في أضيق الحدود ، فهي تعلم أنها تكرهها وتريد التخلص منها وأنها بالنسبة لها عبء لا تحتمله ولا تطيقه .
عَلت الخالة صوتها : أقبلي يا رهف ، كفاكي “دلع بنات” ، أقبلي لدينا ضيف أتى خصيصًا لكي أنتِ .
رفعت “رهف” رأسها ونظرت للضيف الجالس على الأريكة ،واضعا ساق فوق الأخرى، وبجواره طفلة صغيرة، أربكتها نظراته الثاقبة ، فتوقفت ثم التفتت بوجهها لخالتها لترى ابتسامتها التي طالما كرهتها تشير بيديها ناحية الضيف وتدعوها بالترحيب به ، تقدمت “رهف” بخطوات ثقيلة بطيئة ،وقف الضيف يبتسم ويمد لها يده لكنها تجاهلته وكأنها لم تراه ،فوضع يده جانبًا وحرك شاربه في ضيق وظل واقفًا متجهمًا ، ونظرت “رهف” للطفلة التي جلست تهز قدميها بجواره ،وفجأة ودون مقدمات اتجهت نحوها وحملتها بين يديها وجرت بها ناحية غرفتها والطفلة تمد يدها لأبيها الذي هم بالقدوم وراءها ،ولكن رهف أغلقت الباب ، نظر الرجل لخالتها يريد تفسير : ماذا ستفعل بصغيرته ؟ طمأنته الخالة بابتسامة :
– أجلس يا أستاذ خليل ، رهف حنينة وتعلقت بابنتك كما رأيت ، ولكنها تشعر بالخجل ، ألا تعرف خجل البنات ؟!!..
توقفت الخالة عن ثرثرتها حينما سمعت صرخات الطفلة تستغيث بأبيها ، أسرع الرجل الذي مازال واقفًا ، نحو الغرفة دون تردد ودفع الباب كالمجنون ، فإذا بـ “رهف” تمسك برقبة ابنته وتحاول خنقها ، دون تفكير اندفع نحوها وافلتها بصعوبة ورفعها لأعلى وصرخ في وجه “رهف”: ” اتركي ابنتي أيتها المجنونة الحمقاء” ، وهم بالخروج إلا أنها أمسكت بإحدى قدميه وهي تجلس على ركبتيها ،تتوسل اليه ان يترك لها دميتها فبها روح شيطان يجب أن تخلص العالم من شرورها فهي ليست طفلته كما يظن ، وتصرخ فيه : أتركها أتركها،،ليست طفلتك انها دميتي.
ركلها بقدمه الأخرى بقوة أبعدها عنه ، وخرج مسرعًا نحو الباب وهو يصرخ في وجه خالتها الواقفة مزهولة أمام الباب : أنتم مختلون عقليًا ولن اترككم تنجو بفعلتكم .
خرج على الفور وهو يلعن هذا البيت وهذا اليوم ،كادت الخالة تتبعه لتهدئه ، ولكنه أغلق باب الشقة بشدة فارتطم زجاجه وكاد ينكسر ، رجعت الخالة للخلف لترى “رهف” مازالت جاثية على الأرض منهارة وتصرخ : موتي .. موتي ، نظرت الخالة لها بغضب وكره وصرخت في وجهها : موتي أنتِ ، مجنونة مثل أبيكي الله يريحني منك ومن شرك ، وخرجت بعد أن أغلقت الباب خلفها وهي تتوعدها بعقاب شديد لن تتوقعه.
هدأت ثورتها بعدما رأت نفسها وحيدة بالغرفة وتوقفت عن الصراخ والنحيب ، تراجعت للخلف حتى التصقت بظهر فراشها ،الذي وضع في منتصف الغرفة، ونظرت لثقب الباب فدومًا يخيفها كلما وقعت عليه عيناها ، يذكرها بتلك الليلة المشؤومة التي اقتحم عليها والدها غرفتها منذ عام وهي تلعب بدميتها وصرخ في وجهها : أين أمك ؟ أين هي .. ولم ترد ليجذب من يدها الدمية ويصرخ : هذه العروس لن تلعبي بها ثانية ، فبها روح شيطان كالذي بداخل أمك ، وألقى بالدمية من النافذة وأغلق الباب وخرج غاضبَا.
تذكرت كيف جرت نحو النافذة مرعوبة على دميتها التي رأتها معلقة بمسمار ثبت أسفل النافذة ولم تقع كما ظنَ ، انتشلت الدمية وضمتها لحضنها واختبأت معها تحت غطاء فراشها كي لا يراها أبيها .
فاقت من ذكرياتها المؤلمة على صوت دقات الساعة وهي تدق الثامنة مساء ،مسحت بيديها المرتعشتين الدموع التي كوت وجنتيها ولطختها بالأسود الذائب من الكحل، التفتت مفزوعة لثقب الباب وعمقت نظرها فيه انها مازالت ترى ما حدث تلك الليلة ، حينما حملت دميتها بين يديها ونظرت من الثقب بعد أن سمعت صرخات أمها المنبعثة من وراء الباب تعلو وتعلو ثم تتلاشى ، رأت أبيها وقد أطبق بيديه على رقبة أمها التي اتسعت حدقة عينيها بشكل مخيف كأنها تنظر لها وتراها من ثقب الباب ، وهي تطبق على رقبة دميتها بيديها كما فعل ابيها ،دون ان تدري فصلت رأس دميتها عن جسدها ، ووقعت الرأس على الأرض التي ابتلت من حولها ، لترى عين دميتها تحدق بها وقد اتسعت كعين أمها الملقاه على الأرض دون حراك ، سقطت بجانب دميتها مغشيًا عليها فلم تشعر بشيء بعدها ولم ترى أبيها ولا أمها مرة أخرى .
ضغطت بيدها على عينيها كي لا ترى ما استرجعه عقلها ،وبعد قليل نظرت لجدران الغرفة بذعر ، فإذا بها ترى درج منزلهم وقد صور أمامها كاملاً بسوره الحديدي الأسود المخيف ،التف حوله الجيران ينظرون لها وهي تغادر المنزل مع خالتها التي جاءت لتستلمها يوم الحادث أو ربما بعده فهي لا تعرف ما حدث بعد تلك الليلة ، مازالت العيون المحدقة بها والأصوات الهامسة ومصمصة الشفاه عالقة في ذهنها ، تهمس أحدهم وهي تضع يدها تحت ذقنها : أنها خالتها ستأخذها لتعيش معها في بلدتها البعيدة ،فهي ليست متزوجة وليس لديها أطفال وهي الأولى برعايتها ، وأخرى ترد عليها وهي تهز رقبتها في حزن وآسى : منه لله أبيها المجنون قتل أمها المسكينة التي لم نرى منها سوء ودمر بيته.
اعتدلت في جلستها وضمت قدميها العاريتين بشدة لصدرها ، وسألت نفسها ،لماذا حرر هذا الغبي الدمية من يدها ؟؟!!، لماذا خرج ثائرًا كالمجنون ؟؟!! ، كانت ستخلص العالم من شرورها !!!،،،، نظرت للباب حين شعرت بوقع أقدام تقترب ، خافت وارتعش جسدها لابد أنها خالتها ومعها ذاك الغبي أتوا لخنقها كما فعل أبيها بأمها ، نهضت سريعًا وجرت ناحية النافذة الوحيدة التي بغرفتها ،فتحت النافذة بقوة، ومالت بكامل جسدها وهي تنظر لباب الغرفة برعب فلم تتمالك نفسها ، تشبثت بحافة النافذة بيديها المرتجففتين ، ولكن ثقل جسدها خانها وسقطت على الأرض جثة هامدة ،غارقة في دمائها .