تلبدت السماء بالغيوم ، وصعق البرق وجهها ، واشتد الرعد ضاربا السماء بسياطه ، فانهمرت الأمطار غزيرة كالدموع ،خلى الشارع من المارة ، واختبأت الطيور في أعشاشها ، استيقظت الست عايدة على نار تكوي صدرها وضيق تنفس يعتصرها كأن شخصًا يحاول خنقها ، حاولت جاهدة أن تقوم فلم تستطع ، زراعها ثقيل لا يساعدها على الضغط على السرير لتدفع جسمها لأعلى ، وقلبها يدق بسرعة كأنها تصعد الدرج دون توقف .. استمرت خمس دقائق أو أكثر لا تدري الوقت الذي مر وهي على هذه الحالة ، حتى هدأت تمامًا وبدأت تتمالك نفسها وتتنفس بهدوء، حركت زراعها فاستجاب هذه المرة ، اسندت به على الفراش ودفعت بجسدها لأعلى ، قاومت أخيرا ونجحت في القيام والتحرك لحرف الفراش وانزلت قدميها المرتعشتين تتحسس خفها حتى وجدته ، ووضعت قدميها بداخله وقامت بعد أن أخذت نفسًا عميقًا ،تصببت بالعرق رغم برودة الجو ،وقالت بصوت كاد يتلاشى : اعني يا رب ، اعني يارب .. يا عماد .. يا عماد .. رد يا بني ..
بخطوات ثقيلة خرجت من غرفتها وهي تسند على الجدار تخشى السقوط ، واتجهت ناحية باب الشقة ،والقت نظرة على المكان فكل شيء كما هو وكأنها تبحث عن اي تغيير .
فتحت الباب واتجهت ناحية شقة جارتها سناء ، طرقت على الباب برفق ، فلم يجب أحد ، ربما طرقاتها ضعيفة فلم يسمعها من بالداخل ، بدأت تطرق بشيء من القوة التي حاولت استعادتها ،ولكن خانتها عافيتها ، فالأرض تتمايل تحت قدميها كموج البحر تعلو وتهبط، خافت أن تقع فامسكت بقبضة الباب قبل أن تقع على ظهرها فنظرت لأعلى فإذا بالسقف يدور ويدور … كل شيء تلاشى وكأن النور قد انقطع .
لم تشعر بأي شيء ، وحينما فاقت وجدت نفسها في غرفة ليست بغرفتها ولكنها تميزها إنها غرفة سناء وفراش سناء ، ونظرت خارج الغرفة فإذا بسناء تقف مع شخص يتهامسان ويكتب شيئًا في ورقة ، نادت عايدة بصوت خافت : سناء .. سناء … سنااااء .
انتبهت لها سناء ونظرت للشخص الذي تحدثه وقالت : عايدة فاقت يا دكتور .. هرولت سناء ناحية عايدة : الحمد لله يا مانت كريم يا رب ، ، خضتيني عليكي يا عايدة .
وأعادت نظرها للدكتور وقالت له : تعالى يا دكتور ، اتفضل ،.. ده جارنا يا عايدة الله يجازيه كل خير هو اللي ساعدنا ودخلناكي هنا كنت واقعة على الأرض ولا دريانة بالدنيا ، ومش راضي ياخد ولا مليم يا ستي أهو اتشالتي واتعالجتي ببلاش.
فرد الدكتور بابتسامة : حمدالله على السلامة يا ست عايدة الحمد لله انتي بخير متقلقيش خالص .
وقبل أن تظهر له قلقها الواضح تابع : دوا السيولة والراحة هما علاجك وكتبت لك على مسكن هتنامي وتصحي وتبقي بخير وعال العال ، المهم الراحة ومتفكريش في حاجة تضايقك ابداً..
شكرته عايدة واستأذن وخرج بعد أن ترك ورقة العلاج لسناء .همت سناء وراءه لتوصيله لباب الشقة ، وعادت لعايدة لتجيب على حيرتها وتساؤلاتها : حمدالله على السلامة وقعتي قلبي يا عايدة ، ردت عايدة : يا ريتك سبتيني أموت وارتاح . فلاحقتها سناء : ليه تقولي كدة وتزعليني وهو انا لي غيرك في الدنيا ، طيب انتي وزعلانة على عماد ابنك انا لا عيل ولا تيل ماليش غيرك في الدنيا يا عايدة لو دعيتي على نفسك تاني هقاطعك العمر كله ، ضمتها عايدة لحضنها وجففت دموعها ووعدتها بأن تكف عن ذلك وقالت لها : لا اللي عنده عيل مرتاح ولا اللي معندوش مرتاح ربنا يخليكي لي يا سناء.
وقامت سناء لتحضر الدواء لعايدة وكان عبارة عن مسكن واقراص سيولة ودوا ضغط ، عرفت سناء من الدكتور أنها كانت بوادر ذبحة صدرية وربنا ستر وشدد لها على ضرورة المواظبة على دوا السيولة ولو الامر تكرر يتم نقلها للمستشفى على الفور.
رجعت سناء لعايدة بطبق شوربة عدس وقالت لها : هتاكليه كله عشان تاخدي الدوا الجو ساقع وانتي مكلتيش م الصبح ، لم ترد عايدة وكأنها لم تسمع أي شيء.
وضعت سناء منضدة أمام الفراش ووضعت عليه طبق العدس وساعدت عايدة للنهوض .
وتابعت سناء : هروح اجيب لك المية والدوا واجي اقعد ادفا جنبك ، وقبل أن تلتفت مسكت عايدة بيدها وقالت : هو فين يا سناء ، عماد ابني فين متخبطي كدة على الباب يمكن رجع وأنا مش موجودة ، ردت سناء : ما هو ده بقى سبب اللي انتي فيه يا عايدة ، بطلي تسألي عنه هتلاقيه ادامك ، ما هو عماد كدة يغطس يغطس ولا حد عارف بيروح فين ، ويجي فجأة ولا حد عارف جه منين ، هو انا مش مكفياكي يا عايدة بطلي تسألي على اللي بيسألش عليكي .
فردت عايدة : ده ابني يا سناء ، عاوزة اطمن عليه ست شهور معرفش عنه حاجة ولا بيرد على موبايل ولا صحابه يعرفوا عنه اي حاجة ، هو انا غلط لما رفضت أبيع الدهب عشان يسافر برة يشق طريقه زي ما بيقول يقوم يسبني ويمشي ولا كأن له ام على وش الدنيا ، كنت سايبة الدهب لخارجتي عشان ما يحتس ولا يتحوج لحد .
هدأتها سناء ورفضت ان تتركها تغادر لشقتها واصرت على أن تقضي الليلة معها والصبح من بدري توصلها لشقتها وتفضل معاها .
شقق الصباح على قطرات المطر التي غسلت الشوارع وايقظت الطيور على الشجر وبللت غسيل سناء ، ، وسقت لها قصاري الزرع المتراصة على جانبي السور الحديدي لشرفتها المطلة على شارع البورصة بوسط البلد ، فتحت عايدة الباب ونظرت للسماء ورفعت صوتها بالدعاء : طمني على ابني يا رب ، سمعني عنه كل خير ، دلني على مكانه وريح قلبي .
صحيت سناء على صوت عايدة وقطرات المطر تزداد فأصبحت كالحبات الثقيلة لها صوت يزداد مع ارتطامها بالسور ، وقالت : الجو ساقع يا عايدة تعالي ادخلي واقفلي الباب حرام عليكي هتعينا احنا الاتنين ، انتبهت عايدة لصوت سناء وردت : داخلة اهه بس ألم لك الغسيل ، فتابعت سناء : سيبي الغسيل هيرجع ينشف خلاص هو كدة كدة اتبل ادخلي بقى .
دخلت عايدة ومازالت تدعو لربها بأن يدلها على مكان ابنها ، وغيرت ملابسها المبتلة ، وتوضأت وصلت وظلت تردد نفس الدعاء وهي رافعة يدها للسماء : ابني يا رب دلني على مكانه حتى لو في أخر العالم.
قامت سناء وحضرت الفطار وجلست مع عايدة على اريكة بجانب الفراش اعتادتا الجلوس عليها لسنوات وسنوات من العمر ، شاهدة على حكاياتهم وضحكاتهم .. تناولتا الفطار سويًا وأعدت سناء الشاي وجلست بجوار عايدة على الكنبة وبجانبهم راديو صغير ..
عشرون عامًا مرت على صداقتهم التي توطدت بحكم الجيرة والعشرة وتقارب السن ، توفى زوج سناء ولحقه زوج عايدة وظلت المرأتان على عهد الصداقة والمحبة ، متعاهدين على الحلوة والمرة .
حركت سناء مؤشر الراديو يمينًا ويسارًا تبحث عن أغنية قديمة تطرب الصديقتان ولتخرج عايدة من أحزانها ، فهي تعرف ما يسرها وينسيها حزنها وفكرها المشغول بابنها الذي دومًا كان سببًا في تعاستها ،،،
حتى خرج صوت عبدالوهاب : يا مسافر وحدك وفايتني ليه تبعد عني وتشغلني .. ودعني من غير ما تسلم وكفاية قلبي انا مسلم .. دي عنييا دموعها دموعها بتتكلم .. يا مسافر وحدك وفايتني .
راحت الصديقتان تدندنان وتتميلان برؤسهن تضحكان وتتحدثان عن أيام مضت بها ضحكاتهم وعمرهم وذكرياتهم .. وعبدالوهاب يغني :: على نار الشوق انا حاستنى واصبر قلبي واتمنى على بال ما تجیني على بال ما تجیني واتھنى .. طمعني بقربك آه ووعدني .. یامسافر وحدك وفایتني لیه تبعد عني وتشغلني.
سمعت عايدة طرقات على باب شقتها ، صوت الطرقات ارتفع حتى طغى على صوت عبد الوهاب ، انتبهت عايدة ودفعت نفسها من على الكنبة : ده عماد ، عماد يا سناء ، رجع انا دعيت ربنا انه يدلني على مكانه وربنا استجاب .. فردت سناء : لو عماد كان فتح بالمفتاح هيخبط ليه ، فاجابتها عايدة بثقة : اكيد نسي المفتاح لما خرج زعلان مني ، وأسرعت في خطواتها ناحية الباب وعلت صوتها : انا جاية يا عماد جاية يا بني استنى أوعى تمشي .
وقامت سناء مهرولة وراء عايدة ، تاركين عبدالوهاب يغني : خایف لا الغربة تحلالك والبعد یغیر أحوالك خلیني دایما .. دایما على بالك .. یامسافر وحدك وفایتني لیه تبعد عني وتشغلني
اتجهت الصديقتان ناحية باب الشقة ، وصوت الطرقات يعلو ويعلو وصوت عبدالوهاب يخفت ويخفت حتى أصبح غير مسموع .
فتحت عايدة الباب ونادت : عماد !! . . رأت شخص غريب يقف أما باب شقتها ومازال يطرق على الباب ، ألتفت لها ، استبدلت الابتسامة بدهشة والفرحة بخوف وترقب ، وقالت له : أنا صحبة الشقة اللي انت بتخبط عليها ، عاوز حاجة يا بني : انت مين ؟
فرد الغريب : انا مالك الشقة يا حاجة ، صمتت عايدة ولم تنطق لأنها لم تستوعب ما قاله ، فسألته سناء : شقة مين يا بني ؟ اكيد جاي عنوان غلط .
فرد الغريب بثقة : لا يا حاجة انا معايا العنوان مظبوط ومعايا عقد الشقة ، وعماد اللي بعها لي قبل ما يهاجر ، وقالي : اجي استلمها لانه مستعجل على السفر عشان طيارته متفتهوش وجيت استلمها . ولأن الصمت كان سيد الموقف من السيدتان ،تابع الغريب: عماد قالي أن الحاجة موجودة وهتسلمك الشقة .
نزل على الصديقتين الخبر كالصاعقة ، اتسعت عين عايدة من الدهشة ، أرادت دموعها النزول ولكنها أبت أن تخرج من عينيها ، وفتحت فمها كأنها حاولت ان تنطق ولكن توقفت الكلمات في حلقها ، فاستمرت في دهشتها وصمتها ، بينما سناء خفق قلبها وأدمعت عينيها وارتعش جسدها وسألته بكل آسى وتأثر وهي تخبط على صدرها بكلتا يديها : هو عماد باع لك الشقة بالتوكيل اللي امه عملته له ؟؟؟!!..
صمت الغريب وبهت وجهه ، فالصدمة التي رآها في عين المرأتين أخرست لسانه ، ظلوا في صمت بعض الوقت ، إلى أن خرجت عايدة عن صمتها واستجمعت كلماتها ونطقت بكل هدوء : عماد هاجر وسابني ، وتنقلت بعينيها بين سناء والغريب وموجهة للاثنين كلامها المتعلثم الغير مفهوم : اكيد زعلان مني يا سسناء ، عشان مبعتششش الدهب ، انا غللللطانة غلللطانة،ونظرت للغريب : قوله يا بني اني غلط ، معذور هيعمل ايه ، ضيعته ، قوله يرجع لحضن امه ، وخد الشقة مش عاوزاها .. ومازلت تتحدث بكلمات غير مفهومة متلعثمة بدون توقف ، فاسكتتها سناء بعد أن أجهشت بالبكاء : اسكتي ياعايدة ، اسكتي يا عايدة ، اتوسل اليكي اسكتي !!
عايدة مازالت تهرتل بالكلمات لا تتوقف لا تهدأ ، تتحرك هنا وهناك بشكل عشوائي متخبط ،وتردد : انا ضيعت ابني انا ضيعت ابني ، خدوا الدهب والشقة ورجعوا لي ابني …
وإذا بها تشعر بالجدران والأرض تميل بحركات جنونية حولها ، فتسقط فجأة وترتطم بترابزين السلم الحديدي فيردها على ظهرها وتقع بجسدها كله على الأرض ورأسها مرفوعًا للسقف وعيناها مفتوحة والدماء تسيل من وجهها ، تحاول سناء والغريب ان يرفعوها ويهزوا جسدها لعلها تفوق ولكن دون فائدة ،،،،، انقطع النفس وتوقف القلب ، وهدأ الجسد للأبد ..،،،، وسط صرخات سناء ودهشة الغريب.