تكملة حكاية المغنية الاستعراضية التي رقصت في فرح الجن، ونبدأ من حيث انتهينا في الجزء الأول حيث شرعت في الغناء، وجمع الحاضرين كان منسجم بالأغاني ومولعا بها؛ وبعد انتهائنا من الفقرة الأولى من الغناء عدنا للغرفة لننال قسطا من الراحة قبل الفقرة الثانية ، تكملة حكاية المغنية الاستعراضية التي رقصت في فرح الجن.
شعرت بتعب وإرهاق شديد ولا أتمكن من نيل راحة في وجود أناس كثيرين من حولي، لذلك صعدت للطابق الثاني وبخاصة أنه كان خاليا من أي أحد؛ ولكن عندما صعدت كانت المفاجأة، لقد كان الطابق بأكمله مهجورا، ورائحة الأشياء القديمة والأتربة تفوح وتعبأ أنفي؛ سرت بالممر وكنت متعجبة وحائرة كيف لمكان واحد أن يكون بمثل هذا الزهو بالأسفل بينما الطابق الثاني يكون بهذه البشاعة، تكملة حكاية المغنية الاستعراضية التي رقصت في فرح الجن.
لم أجد إلا غرفة واحدة مفتوح بابها، كانت جدرانها متهالكة للغاية، ولا يوجد بها أثاث سوى سرير واحد مرتب، وهذا الشيء أدهشني كثيرا؛ اقتربت من السرير ونظرا للإرهاق الذي كنت أشعر به فخلدت في نوم عميق على الفور، وبينما كنت نائمة إذا بي أرى بالمنام أسوأ كابوس رأيته على الإطلاق طوال حياتي.
لقد رأيت امرأة عجوز ترتدي ملابس شديدة السواد، كانت ملامحها مخيفة ومرعبة، طوال الكابوس كانت تصرخ وتركض خلفي تريد أن تلحق بي الأذى بأي شكل، هرعت من السرير مستيقظة على الفور، ركضت تجاه الباب مسرعة أريد الخروج، أتذكر جيدا أنني لم أغلقه من الأساس، لقد كنت في غاية الرعب والهلع فكيف لي أن أغلق بابا لغرفة مرعبة مثل هذه؟!
وبالرغم من محاولاتي العديدة لفتحه، وطلب المساعدة بأعلى صوتي إلا إنني لاقيت من الأمر ما جعلني أتمنى الموت حنها، لقد فتح الباب من تلقاء نفسه دون محاولة مني بهذه المرة، وأول ما فتح وجدت أمامي نفس العجوز المخيفة التي كانت بالكابوس!
أغمضت عيني وتمنيت أن تكون مجرد أوهام وأن صورتها مجرد صورة عالقة بذاكرتي من هول أحداث الكابوس التي مررت بها، وحمدا لله بمجرد أن فتحت عيني لم أجدها، كانت قد اختفت من أمامي؛ أسرعت للنزول للطابق الأول ولكني فوجئت بوجود طفل صغير بنفس الطابق (الطابق الثاني)، ذهبت لإحضاره والنزول به للأسفل خوفا عليه من أخطار وهول ومخاوف هذا المكان الغريب.
كلما اقتربت كلما بعد، كان يجري ويضحك، وكلما ناديت عليه ابتسم ابتسامة جميلة في وجهي، ولكنه ذهب لنهاية الممر، ذهبت خلفه لألحق به، ولكنه قام بالصعود للطابق الثالث، تحيرت في أمري، إذا كان الدور الثاني بكل هذه المخاوف فما بالنا بالدور الثالث؟!
لم يطاوعني قلبي لتركه فذهبت خلفه، ولكنني ما إن ذهبت للطابق الثالث حتى تجمدت أطرافي، لقد كان أكثر إخافة من الدور الثاني، كما أنني رأيت الطفل ركضت تجاهه بسرعة لأمسك به، ولكنه كان أسرع مني ودخل غرفة بالممر، سمعت أصوات ضحكاته تملأ الطابق بأكمله، كانت الإضاءة خافتة للغاية، الجدران قاتمة الألوان، والأرضيات محطمة كليا، كنت أقدم خطوة وأؤخر الأخرى.
فتحت الغرفة التي يصدر منها صوت ضحكاته ولكنني لم أجده، لمحت ظل شخص كبير الحجم، وسمعت صوت يطلب مني أن أغني…
الغريب: “غني يا نورة فإننا نعشق صوتك ونطرب لسماع أغانيكِ”.
رددت عليه قائلة: “من أنت؟!”
الغريب: “أنا محب وعاشق لصوتكِ يا نورة، فغني لأجلي”.
أجبته وجسدي بالكامل يرتعد: “وكيف أغني وأنا أشعر بالخوف الشديد بهذه الطريقة؟!”
الغريب: “لا تخافي يا نورة فلا أحد يموت قبل أن يكمل أيامه بالحياة”.
تمكنت من التحكم بقدمي والركض بعيدا عنه، وصلت للدور الأول وتحديدا لغرفة تغيير الملابس، ولا أدري كيف وصلت إليها، وعندما دخلت وجدت البنات يلتففن حول “شمس” وهي بدورها ترتعش وتهزي بكلمات متكررة.
قلقت كثيرا على حالها…
شمس: “إننا بمكان غريب ومثير للشكوك، بالتأكيد هؤلاء ليسوا ببشر، أقسم على أنهم ليسوا ببشرين مثلنا”.
اقتربت منها وحاولت أن أربط عليها لتستعيد جأشها…
سألتها: “ما الذي حدث معكِ يا شمس، استهدي بالله العلي العظيم وتحدثي ولا تخفي شيئا في نفسكِ، بوحي بكل ما بداخلكِ”.
اقتربت منها وحاولت أن أربط عليها لتستعيد جأشها…
سألتها: “ما الذي حدث معكِ يا شمس، استهدي بالله العلي العظيم وتحدثي ولا تخفي شيئا في نفسكِ، بوحي بكل ما بداخلكِ”.
شمس: “عندما تأخرتِ وبدأ الجميع يسأل عنكِ، صعدت للطابق العلوي بحثا عنكِ من أجل إكمال عملنا، ولكنني عندما وصلت وجدت الطابق بكامله مهجورا، وكأنه لا يوجد أحد يعيش به، دب بقلبي الذعر، ولم أجد سوى غرفة واحدة فاقتربت منها لأناديكِ، وإذا بي ألمح بمنتصف الممر شيء لا يشبه البشر إلا في أنه يتحدث مثلنا، كان أسود ومن الصعب تحديد ملامحه، ولكن من السهل جدا الشعور بسخونة تعتري جسدكِ بالكامل، أغمضت عيني وتمنيت أن أكون أتخيل وأتوهم كل م أراه، ولكني شعرت بسخونة أنفاس في وجهي، لم أتمالك نفسي إلا وأنها قد فتحت عيني لأرى ما الذي يزفر في وجهي بأنفاس كريهة هكذا، وإذا بي أجده في وجهي، ويقول لي: “غني إنني أحب صوتك!”
حاولت الهروب ولكني كنت مغلوبة على أمري، وكأن قوى خفية تسيرني كيفما أرادت، وعندما صرخت في وجهه الشيء الوحيد الذي استطعت فعله لطمني على وجهي، ومن ثم وجدت نفسي على الأرض أجر على وجهي، ولا أتذكر كيفية هروبي إلى هنا.
نورة إننا بمكان مليء بالجن والأشباح، هؤلاء ليسوا ببشر مثلنا على الإطلاق”.
أخذتها بحضني وربت على ظهرها قائلة: “إن ما رأيته يفوق ما رأيته بمراحل، هيا لنكمل ما بدأناه وننهيه لنعود أدراجنا بأمان وسلام”.
شمس: “ولكننا يمكننا أيضا أن نغادر ونعيد الأموال”.
رددت عليها قائلة: “نحن نتعامل مع شيء لا نعلم عنه شيئا، لنكمل حتى بزوغ الفجر”.
وبالفعل خرجنا وأكملنا الأغاني، ومن الغريب أنهم جميعا كانوا يغنون ويتراقصون مع أغانينا، كانوا منسجمين لأبعد الحدود، وكل شيء كان شبه طبيعي حتى دقت الساعة دقاتها الأخيرة معلنة عن تمام الساعة الثنية عشر منتصف الليل.
لقد نسوا أنفسهم تماما وتبينت حقيقتهم التي كنا نتغاضى عنها، أثناء الرقص جن جنونهم وشرعوا في رفع ثيابهم فتبينت أقدامهم والتي كانت عبارة عن أقدام حيوانات، كما أنه كانت هناك واحدة منهم كانت من كثرة اندماجها مع الأغاني والرقص كانت تقتلع شعر رأسها، في البداية كنت أعتقد أنه مجرد شعر مستعار، ولكني عندما أمعنت النظر فيه وجدتها تلقيه بدمه!
شرعوا في الغناء معنا لدرجة أن أصواتهم غطت على أصواتنا جميعا، ومن بعدها شرعوا في قول كلمات غير مفهومة بعدها أخذت أعدادهم تتضاعف وأشكالهم تصبح مخيفة، كنا نكمل الغناء بكلمات ارتجالية كلها خاطئة من شدة خوفنا من مصير مجهول منتظرنا، مصير نعجل به إذا توقفنا عن الغناء.
كنت أحدثهن بعيني، أحثهن على ألا يتوقفن عن الغناء مهما كلفهن الأمر، أحثهن أن ينظرن للأسفل ينظرن للأرض حتى لا يرين هذه المناظر البشعة التي أمامهن، لم تستطع “شمس” التحمل أكثر من ذلك أغمي عليها، وبذلك اكتسبن بعض الوقت، أعلمتهن الخطة بكلمات تورية تفهم بأكثر من طريقة، كانت خطتنا الوحيدة الغناء حتى آذان الفجر، وبعدها انتظار ما سيحدث معنا.
وبالفعل خرجنا وجعلت “شمس” تجلس بجانبي، كانت حالته مستاءة للغاية، حذرتها من رفع بصرها عن الأرض، ومازلنا في الغناء حتى أذن الفجر، وفجأة انطفأت كل الأنوار من حولنا، وعم صمت رهيب بكل الأرجاء.
كانت فرصتنا الوحيدة للإفلات من هذا الرعب، تركنا كل شيء خلفنا واتجهنا للبوابة، وبالفعل تمكنا من الخروج من المنزل الذي أصبح ظلاما حالكا، وركضنا بكامل طاقتنا حتى أصبحنا على بعد أميال.
وبعد قطع كل هذه المسافة إذا بشمس تصرخ بكامل صوتها، لقد رأت رجلا عجوزا في الظلام، وجميعنا مثلها اعتقدنا أنه منهم ومثلهم، توقفنا ولم ندري ماذا نحن بفاعلين؟!
تقدم الشيخ العجوز نحونا، وكل واحدة منا تسمرت مكانها، ولم يطمئننا شيء سوى سؤاله: “ماذا تفعلون هنا، ومن أين أتيتم، ولماذا فتيات مثلكم بمثل هذا المكان بساعة متأخرة كهذه؟!”
قدمت إحداهن وأعلمته قائلة: “هذه الطقاقة نورة ألا تعلمها؟!، ونحن جميعنا كنا هنا نحيي حفل زفاف”.
وباستنكار شديد من العجوز: “بأي مكان هذا الحفل كان؟!
وفي محاولة منها لإثبات كلامها: “لقد كنا بمنزل ضخم للغاية مليء بالأضواء والأنوار الزاهية، ألا تعلمه؟!”
العجوز: “وإن كنت أعلمه فلم كنت سأسألكِ عنه؟!”
وجاءت لتشير على المنزل بإصبعها، وإذا بها تصرخ من هول ما رأت؛ لقد كان منزلا مهجورا متهدم الجدران، حتى أن النباتات التي أمامه جميعها يابسة، حتى الأشجار يابسة مكانها ولا توجد بها أي حياة.
قصصت عليه القصة كاملة من لحظة مكالمة الهاتف، وحفل الزفاف وكل شيء وجدناه غريب ولا يصدق به، وبدوره قص علينا قصصا أغرب من الغرابة نفسها…
العجوز: “أتدرون أن هذا المنزل مهجور ولا يسكنه البشر منذ عشرة أعوام، ودائما ما اشتكى الجيران من حوله من أصوات في منتهى الغرابة يسمعونها تصدر عنه× أؤكد لكن أن كل ما رأيتنه بفعل الجن والشياطين، وحمدا لله أنكن ما زلتن على قيد الحياة، من الواضح أنهم أحبوا غنائكم والأغاني التي تقدمنها، وإلا ما كانوا جازفوا بهذه الطريقة وبإظهار أنفسهم لكن، إن الجن لا يسمحون لأي أحد أن يخترق عالمهم إلا في حالة من اثنتين، الأولى إما عشقوه، والثانية كرهوه وأرادوا له الأذى على أيديهم”.
تنهدت الطقاقة نورة ونظرت إلي بتروي وقالت: “أتعلم إنني خائفة بشأنك للغاية، وأعتقد أن ما تفعله الآن من سماع لقصصهم ستندم عليه لاحقا”.
أجبتها قائلا: “يا فنانة لا أحد يأخذ بكل الحياة أكثر مما كتب له ولا أقل”.
ورة الطقاقة: “أتعلم حتى الآن كلما غفوت أرى صورة المرأة العجوز التي رأيتها بالمنزل من قلب، ودوما تركض خلفي وتطاردني وتريد إلحاق الأذى بي”.
أكملت حديثها بعدما تنهدت من جديد: “أما عن صديقتي الحبيبة شمس فقد فارقت الحياة بعدما كانت تعاني من وجودهم على الدوام أينما ذهبت وأينما حلت؛ وباليوم الذي توفيت فيه وذهبنا جميعا لتشييع جنازتها وتوديعها للمرة الأخيرة، رأيت هناك ما أذهلني وأصابني بالذعر الشديد، لقد كانت نفس السيدة التي اتصلت بي هاتفيا لإحياء زفاف ابنتها الوحيدة، ونفس السيدة العجوز الضخمة مخيفة الملامح ذات الملابس السوداء”!
عندما كانت تتحدث عن الموضوع تارة تفيض عينيها بالدموع على صديقتها شمس التي فقدت كل حياتها، وتارة عن بقية صديقاتها واللاتي على الدوام يعانين من كوابيس مرعبة ورؤية أشياء وأحداث غريبة بالحياة.
جميعهن لم تتخطى أي واحدة منهن تلك التجربة السيئة التي عشنها واندمجن بها، والسبب وراء كل ذلك يرجع إلى الجن الذين عشقوا أصواتهن حرفيا.
نورة الطقاقة: “لقد تركت الفن نهائيا ولن أرجع إليه مهما كلفني الأمر، وأرجو من الله سبحانه وتعالى أن ينعم علي بالحماية والوقاية من عوالم خفية”.
كانت من أغبر القصص التي سمعتها يوما من راويها الأصلي، فالفنانة “نورة” لم تكن مجرد راوية لأحداث القصة بل كانت صاحبة التجربة ومن خاضتها بنفسها، تجربة مرت بها شخصيا مع مجموعة من البنات واللاتي هن في الأساس أعز الشخصيات على قلبها.