أخذ يحيى يدور بالحديقة التي اعتاد زيارتها في يوم الأجازة من كل اسبوع، اتجه لمقعده المفضل بها وضع أدواته من حامل لوحات وحقيبة بها فرش وألوان، جلس يعرض رسوماته وفنه على المتسكعين بالمكان، ينتظر حتى يطلب أحدهم منه رسم لوحة له تخلد ذكرى تواجده بالحديقة.
كان يحيى في بادئ الأمر رسام هاوي حتى أقنعه أحد الأصدقاء بأن يستخدم هوايته في الرسم في كسب المال للتغلب على أزماته المادية، كثيرا ما كانت تتناوب عليه الفتيات الراغبات في اقتناء لوحة لهن من رسوماته البديعة وقليل من الشباب ممن يرغب في ذلك، أما العشاق خصص لهم إطار جميل من القلوب والورود يرسم بداخله نظرات الحب والأشواق، اعتاد في رسمه إخفاء العيوب وتجميل الملامح وتظليل الحاجب وتطويل الرموش والتفنن في تقسيمات الوجه وتحديده.
وفي ذلك اليوم مرت ساعات مملة فلم يمر بالمكان إلا رجل عجوز لا يأبه لرسوماته جلس بالمقعد المجاور له. راح يحيى بفكره بعيدا يفكر في ما عليه من التزامات، أجرة مسكنه التي استحقت الدفع وتراكم مديونياته لدى البقال والجزار وبائع الخضار. استمر في شروده فترة من الزمن يتساءل كيف يتخطى أزماته؟ حتى كادت رأسه أن تنفجر من الداخل.
جلست من أمامه فتاة حسناء ذات شعر بني وعيون عسلية ارتسم بهما حزن أخفته وراء وجهها البرئ، النظرة الأولى لها كانت كالسحر، أخذت يحيى من شروده وصار يفكر في ما وراء هذا الجمال الفتان من هموم وأحزان. كانت الفتاة شاردة غير مبالية بمن حولها لا تشعر بنظرات يحيى إليها، لم يجد هو طريق لبدء حديث معها حاول التفكير في حجة للفت نظرها إليه حتى انتبه لفرشاته وألوانه، داهمته فكرة جيدة أخذ يضع لوحته البيضاء على الحامل وبدأ في رسم الفتاة، قرر عرض الرسمة عليها بعد أن ينتهي منها، تسعدها وتخفف عنها شئ من حزنها وفي ذروة انهماكه في الرسم، لاحظ أن الفتاة بدأت تشعر بنظراته لها، وفي غفلة منه، انشغل عنها قليلا يضع بعض الرتوش على رسمته يبرز الحسنة على خدها الأيمن ويظلل خصلة شعر تهدلت على جبينها، أظهر بريق دمع تلألأ بمقلتيها، كاد أن ينتهي حتى نظر للمقعد أمامه فلم يجد الفتاة، راح يبحث عنها يدير رأسه بالمكان، يسير ذات اليمين مرة وذات الشمال، مد نظره بعيدا لم يعثر عليها وكأنها قد تبخرت.
ترقب العجوز بالمقعد المجاور يحيى وشاهد توتره، أقدم عليه يحيى مسرعا وقد علا وجهه الانزعاج وسأله:
ألم تعلم أين ذهبت الفتاة؟
قال العجوز
أي فتاة؟!
الفتاة كانت تجلس هنا أمامي.
هز العجوز رأسه نافيا وقال:
لم يجلس أحد على هذا المقعد منذ أتيت.
ارتسمت الدهشة على ملامح يحيى الذي أشار إلى لوحته مبرهنا للعجوز وجود الفتاة منذ قليل قائلا له:
كيف لم تراها؟ كانت هنا أنظر للوحة لقد رسمتها منذ قليل.
قال العجوز وعيناه تنظران بشفقة له:
هذه رسمة جميلة لطيف فتاة من بنات أفكارك يا ولدي، فإن عرضتها للبيع أخذها منك بثمن كبير فهي تشبه كثيرا فتاتي عندما كنت في مثل سنك.
صمت يحيى لم يجد ما يقوله، استعوض ضائعته وبعينيه حسرة ولسانه يرثي حاله، ومرت دقائق أخذ يفكر في عرض العجوز الذي سوف يحل كل مشاكله المالية، نظر للفتاة باللوحة شهد الدموع بعينيها وفي لمحة حزن منه ترقرق الدمع بمقلتيه، لم يلتفت للعجوز بعدها، بل حمل حاجاته وأخد اللوحة، لملم شتات نفسه ورحل من المكان.
بعد فترة وجيزة جائت الممرضة تسأل العجوز أن يتبعها لغرفته قائلة:
ألم تكتفي من شمس اليوم ياعم يحيى، مِعاد الغداء والراحة قد أن..
ساعدته الممرضة على النهوض من مقعده سألها عن الشاب صاحب اللوحات وكان يحدثه، قالت:
ما من أحد جاء لزيارتك اليوم، انت في حديقة الدار وحدك منذ باكر، كما أني شاهدت لوحتك الجديدة التي رسمتها أمس بغرفتك ولم تكملها، وأود ان اعرف من هي تلك الفتاة التي باللوحة.